السلالم الحجاجية في القصص القرآني – مقاربة تداولية -
السلالم الحجاجية في القصص القرآني – مقاربة تداولية -
القرآن الكريم هو مصدر التشريع الأول للأمة المحمدية، وعلى فقه معناه، ومعرفة أسراره، والعمل بما فيه تتوقف سعادتها. ولا يستوي الناس جميعًا في فهم ألفاظه، وعباراته مع وضوح بيانه، وتفصيل آياته، فإن تفاوت الإدراك بينهم أمر لا مراء فيه. فالعامي يدرك من المعاني ظاهرها، ومن الآيات مجملها، والذكي المتعلم يستخرج منها المعنى الرائع. وبين هذا وذاك مراتب فهم شتى، فلا غرو أن يجد القرآن من أبناء أمته اهتمامًا بالغًا في الدراسة لتفسير غريب، أو تأويل تركيب. وليس في الدنيا نص تحققت فيه هذه الميزة، ولا غرو أن يجعله علماء العربية، كما جعله علماء الشريعة الحجة الأولى لإثبات اللغة وتقرير قواعده، وأن يجعلوه في مرتبة أسمى وأعلى من قياساتهم النحوية، فكان من ذلك ما يسمونه الاحتجاج بالقراءات. فإذا كان علماء العربية، وأهل الشريعة اهتموا باللغة في مستوياتها المختلفة، فإنه مع نهاية القرن الماضي أصبح الدرس التداولي ثريا جدا، وذلك بما يقدمه لنا من إجراءات، سواء على مستوى الاستعمال اللغوي الطبيعي، أو على مستوى تحليل الخطاب، أو على مستوى الحجاج اللغوي. وهذا الأخير الذي جلب للدرس التداولي اهتماما بالغا، اتضح جليا من خلال العودة القويّة للبلاغة تحت تسمية البلاغة الجديدة، حيث ركّزت على جانبين هامين هما "البيان والحجاج" كوسيلتين أساسيتين من وسائل الإقناع. إذ فرّقت هذه الدراسات بين مفهوم الجدل والحجاج. لقد حظي الحجاج في الآونة الأخيرة باهتمام اللغويين والبلاغيين والمناطقة والفلاسفة والأدباء، وعلماء النفس وعلماء الاجتماع وغيرهم. كل يهتم به في مجاله، فأصبحنا نتحدث عن الحجاج اللغوي، والحجاج البلاغي، والحجاج المنطقي، والحجاج الفلسفي، وأنواعا أخرى من الحجاج. ولذلك يمكننا أن نعتبر الخطاب القرآني خطاباً حجاجياً، لكونه جاء رداً على خطابات تعتمد عقائد ومناهج فاسدة، فهو يطرح أمراً أساسياً ويتمثّل في عقيدة التّوحيد، ويقدّم الحجج بمستويات مختلفة، والمدعّمة ضدّ ما يعتقده المتلقون من مشركين وملحدين، ومنكرين للنبوّة والمجادلين. ولعلّ في اختلاف مستويات التّلقّي هذه ما يؤكّد الصفة الحجاجية للقرآن؛ لأنّها خاصيّة أساسية من خصائص الخطاب الإقناعي، الذي يعرّفه الدّرس الحديث من الناحية الوظيفية من حيث إنّه موجّه للتّأثير على آراء وسلوك المخاطب. إنّنا في هذا البحث نعتبر أنّ اللُّغة ليست مجرّد أداة للتعبير فقط، وإنّما هي حقيقة حجاجية، فهذا ما يؤكّد المنطق الذي بنيت عليه لغة القرآن، من حيث هي لغة وحجّة بالغة بحسب ما ذهب إليه دارسو الإعجاز القرآني، أو ما يمكن أن يندرج ضمن ما تسعى إليه سيميائيات التواصل بدراسة أساليب التواصل أي الوسائل المستعملة قصد التأثير، وهذا يعيدنا إلى الوظيفة الأساسية للُّغة. ومن الأسباب التي دفعتنا إلى اختيار النظرية الحجاجية كإطار نظري ووصفي لعملنا هذا نذكر ما يلي: ـ نظرية الحجاج في اللغة حديثة؛ تقدم تصورا جديدا من حيث طبيعته ومجاله، كما تقدم أفكارا ومقترحات هامة بخصوص عدد كبير من الظواهر اللغوية. ـ تمكنت هذه النظرية من التغلب على كثير من المشاكل والصعوبات التي كانت تعترض المقاربات الوصفية للمعنى. ـ تندرج هذه النظرية ضمن تيار حديث في الدراسات اللسانية، لا يعتبر الوظيفة التواصلية الإخبارية الوظيفة الأساسية والوحيدة للغة؛ بل يسند إليها دورا ثانويا يتمثل في الوظيفة الحجاجية لها. هذا عن أسباب اختيار النظرية الحجاجية، أما فيما يتعلق باختيار" السلالم الحجاجية في القصص القرآني" موضوعا للبحث، فإن ذلك يرجع إلى خلو الساحة العربية من مثل هذه المواضيع، ولقد كان الهدف الأسمى من هذا البحث: ـ تأكيد فرضية السلمية الحجاجية للغة الطبيعية، ولا سيما لغة القصص القرآني. ـ إبراز أهم الجوانب الحجاجية وسلميتها للغة العربية في مستويات عديدة. ـ محاولة جادة لاختبار تلك النظريَّة ـ نظرية الحِجاج ـ على مساحة القصص القرآني، سعياً إلى التماس أصول الحِجاج، وتبيُّن أساليبهِ اللُّغوية، وغاياتِه الفكريَّة والعَقَائدية: 1ـ أمَّا الأساليب اللُّغوية: فلأن لغة القصص تحملُ في مفرداتها وتراكيبها كثيراً من الرَّوابط التي تمنح نظرية الحجاج في القرآن طابعاً لغوياً خاصَّاً وفريداً، إضافة إلى ما اختص به الخطابُ القرآني من أسباب للنُّزول، وسياق، وتناسب بين الآي والسُّور، ونحو ذلك ممَّا يمكن أن يصبَّ في صَوغ المعالم الأسلوبيَّة للحِجاج في القرآن الكريم . 2ـ وأمَّا الغايات الفكريَّة والعَقائديَّة: فلأنَّ الحجاجَ في القرآن مُنطو ضمنا أو صراحة على جملةٍ من المبادئِ الحِجاجيَّة، تشكِّل بمجموعها أصولَ العقيدة الإسلاميَّة، والقضايا التي دعا إليها القرآنُ الكريم لتكون قاسماً فكريَّاً مشتركاً بين النَّاس، يُبصِّرهم طرقَ الإصلاح والهداية، في منهجٍ حواري خاليا من العنفِ والإكراه. وتكمن إشكالية هذا البحث في محاولتنا للإجابة على مجموعة من التساؤلات أهمها: ـ ما مفهوم الحجة في القرآن الكريم؟ وما هي أنواعها، وخصائصها، وسلميتها في القصص القرآني؟ ـ ماذا نقصد بالسلم الحجاجي؟ وفيما تتمثل قوانيه في القصص القرآني؟ وما هي أهم خصائصه ومكوناته؟ وما هي الأسس والاجراءات التي تضبطه؟ ـ إذا كان الخطاب القرآني خطابا حجاجيا؟ فكيف يمكن تحديد معانيه الحجاجية من خلال السلالم الحجاجية في القصص القرآني؟ رغم أهمية هذا الموضوع إلا أنه لم يحظى بشيء من الدراسات المعمقة، غير أن القليل منها تناولت جوانب محددة من الموضوع. ولا ننكر وجود بعض المساهمات الفعلية الخاصة بالموضوع، لكنها عولجت من خلال إطارها العام دون إطارها المتخصص، في ثنايا الحديث عن السلم الحجاجي عند ديكرو. إنّ موضوع "السلالم الحجاجية في القصص القرآني" من الموضوعات الهامة، ذلك أن مخاطبة العقول والقلوب فن لا يجيده إلا من يمتلك أدواته وضوابطه، والذي يدور أساساً على الإيمان بالله ورسله، وعلى وحدانيته وأحقيته بالعبادة دون غيره، والإيمان بالبعث والجزاء، وهذه العناصر من أهم قضايا القرآن الكريم، ولهذا استدعت استعمال شتى أضرب الحجج والاستدلال.
الكلمات المفتاحية: القرآن،التداولية،السلم،الحجاج،الاقناع، الأليات،المتلقي،الحوار،الخطاب،القصص
تحميل الرسالة
.
اترك تعليقك